الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهذا اللون من الكلام يسمى الكلام المنصِف وهو أن لا يترك المُجادل لخصمه موجب تغيظ واحتداد في الجدال، ويسمى في علم المناظرة إرخاء العنان للمناظِر، ومع ذلك فقرينة إلزامهم الحجة قرينة واضحة.ومن لطائفه هنا أن اشتمل على إيماء إلى ترجيح أحد الجانبين في أحد الاحتمالين بطريق مقابلة الجانبين في ترتيب الحالتين باللف والنشر المرتّب وهو أصل اللفّ.فإنه ذكر ضمير جانب المتكلم وجماعته وجانب المخاطبين، ثم ذكر حال الهدى وحال الضلال على ترتيب ذكر الجانبين، فأومأ إلى أن الأولِين موجَّهون إلى الهدى والآخِرين موجهُون إلى الضلال المبين، لاسيما بعد قرينة الاستفهام، وهذا أيضًا من التعريض وهو أوقع من التصريح لاسيما في استنزال طائر الخصم.وفيه أيضًا تجاهل العارف فقد التأمَ في هذه الجملة ثلاثة محسنات من البديع ونكتة من البيان فاشتملت على أربع خصوصيات.وجيء في جانب أصحاب الهدى بحرف الاستعلاء المستعار للتمكن تمثيلًا لحال المهتدي بحال متصرّف في فرسه يركضه حيث شاء فهو متمكّن من شيء يبلغ به مقصده.وهي حالة مُماثلة لحال المهتدي على بصيرة فهو يسترجع مناهج الحق في كل صوب، متَسعَ النظر، منشرحَ الصدر: ففيه تمثيلية مكنية وتبعية.وجيء في جانب الضالّين بحرف الظرفية المستعار لشدة التلبس بالوصف تمثيلًا لحالهم في إحاطة الضلال بهم بحال الشيء في ظرف محيط به لا يتركه يُفارقه ولا يتطلع منه على خلاف ما هو فيه من ضيق يلازمه.وفيه أيضًا تمثيلية تبعية، وهذا ينظر إلى قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا} [الأنعام: 125].فحصل في الآية أربع استعارات وثلاثة محسنات من البديع وأسلوب بياني، وحجة قائمة، وهذا إعجاز بديع.ووُصف الضلال بالمبين دون وصف الهدى بالمبين لأن حقيقة الهدى مقول عليها بالتواطؤ وهو معنى قول أصحابنا الأشاعرة: الإِيمان لا يزيد ولا ينقص في ذاته وإنما زيادته بكثرة الطاعات، وأما الكفر فيكون بإنكار بعض المعتقدات وبإنكار جميعها وكل ذلك يصدق عليه الكفر.ولذلك قيل كفرٌ دون كفر، فوصف كفرهم بأنه أشدّ الكفر، فإن المبين هو الواضح في جنسه البالغ غاية حده. {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)}.أعيد الأمر بأن يقول لهم مقالًا آخر إعادة لزيادة الاهتمام كما تقدم آنفًا واستدعاء لأسماء المخاطبين بالإِصغاء إليه.ولما كان هذا القول يتضمن بيانًا للقول الذي قبله فُصِلتْ جملة الأمر بالقول عن أختها إذ لا يعطف البيان على المبين بحرف النسق، فإنه لما ردَّد أمر الفريقين بين أن يكون أحدهما على هدى والآخر في ضلال وكان الضلال يأتي بالإِجرام اتّسِعَ في المحاجة فقيل لهم: إذا نحن أجرمنا فأنتم غير مُؤَاخَذِين بجُرمنا وإذا عمِلْتُم عملًا فنحن غير مؤاخذين به، أي أن كل فريق مؤاخذ وحده بعمله فالأجدى بكلا الفريقين أن ينظر كل في أعماله وأعمال ضده ليعلم أيّ الفريقين أحق بالفوز والنجاة عند الله.وأيضًا فُصِلت لتكون هذه الجملة مستقلة بنفسها ليخصها السامع بالتأمل في مدلولها فيجوز أن تعتبر استئنافًا ابتدائيًا، وهي مع ذلك اعتراض بيّن أثناء الاحتجاج.فمعنى: {لا تسألون} {ولا نسأل} أن كل فريق له خويّصته.والسؤال: كناية عن أثره وهو الثواب على العمل الصالح والجزاء على الإِجرام بمثله، كما هو في قول كعب بن زهير:
أراد ومؤاخَذ بما سبَق منك لقوله قبلَه: وإسناد الإِجرام إلى جانب المتكلم ومن معه مبنيّ على زعم المخاطبين، قال تعالى: {وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [المطففين: 32] كان المشركون يؤنِّبون المؤمنين بأنهم خاطئون في تجنب عبادة أصنام قومهم.وهذه نكتة صوغه في صيغة الماضي لأنه متحقق على زعم المشركين.وصيغ ما يعمل المشركون في صيغة المضارع لأنهم ينتظرون منهم عملًا تعريضًا بأنهم يأتون عملًا غير ما عملوه، أي يؤمنون بالله بعد كفرهم.وهذا ضرب من المشاركة والموادعة ليخلوا بأنفسهم فينظروا في أمرهم ولا يلهيهم جدال المؤمنين عن استعراض ومحاسبة أنفسهم.وفيه زيادة إنصاف إذ فرض المؤمنون الإِجرام في جانب أنفسهم وأسندوا العمل على إطلاقه في جانب المخاطبين لأن النظر والتدبر بعد ذلك يكشف عن كنه كلا العملين.وليس لهذه الآية تعلق بمشاركة القتال فلا تجعل منسوخة بآيات القتال. {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)}.إعادة فعل {قل} لِمَا عرفتَ في الجملة التي قبلها من زيادة الاهتمام بهذه المحاجات لتكون كل مجادلة مستقلة غير معطوفة فتكون هذه الجملة استئنافًا ابتدائيًا.وأيضًا فهي بمنزلة البيان للتي قبلها لأن نفي سؤال كل فريق عن عمل غيره يقتضي أن هنالك سؤالًا عن عمل نفسه فبُيّن بأن الذي يسأل الناس عن أعمالهم هو الله تعالى، وأنه الذي يفصل بين الفريقين بالحق حين يجمعهم يوم القيامة الذي هم منكروه فما ظنك بحالهم يوم تَحقَّق ما أنكروه.وهنا تدرج الجدل من الإِيماء إلى الإِشارة القريبة من التصريح لما في إثبات يوم الحساب والسؤال من المصارحة بأنهم الضالّون.ويسمى هذا التدرج عند أهل الجدل بالترقّي.والفتح: الحكم والفصل بالحق، كقوله تعالى: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} [الأعراف: 89] وهو مأخوذ من فتح الكوة لإِظهار ما خلفها.وجملة {وهو الفتاح العليم} تذييل بوصفه تعالى بكثرة الحكم وقوته وإحاطة العلم، وبذلك كان تذييلًا لجملة {يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق} المتضمنة حكمًا جزئيًا فذيل بوصف كلي.وإنما أتبع {الفتاح} ب {العليم} للدلالة على أن حكمه عدْلُ مَحض لأنه عليم لا تحفّ بحكمه أسباب الخطأ والجور الناشئة عن الجهل والعجز واتباع الضعف النفساني الناشىء عن الجهل بالأحوال والعواقب. {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}.أعيد الأمر بالقول رابع مرة لمزيد الاهتمام وهو رجوع إلى مهيع الاحتجاج على بطلان الشرك فهو كالنتيجة لجملة {قل من يرزقكم من السماوات والأرض} [سبأ: 24].والأمر في قوله: {أروني} مستعمل في التعجيز، وهو تعجيز للمشركين عن إبداء حجة لإِشراكهم، وهو انتقال من الاحتجاج على بطلان إلهية الأصنام بدليل النظير في قوله: {قل من يرزقكم} إلى إبطال ذلك بدليل البداهة.وقد سُلك من طرق الجدل طريقُ الاستفسار، والمصطلح عليه عند أهل الجدل أن يكون الاستفسار مقدَّمًا على طرائق المناظرة وإنما أخّر هنا لأنه كان مفضيًا إلى إبطال دعوى الخصم بحذافيرها فأريد تأخيره لئلا يَفوت افتضاح الخصم بالأدلة السابقة تبسيطًا لبساط المجادلة حتى يكون كل دليل مناديًا على غلط الخصوم وباطلهم.وافتضاح الخطأ من مقاصد المناظِر الذي قامت حجته.والإِراءة هنا من الرؤية البصرية فيتعدى إلى مفعولين: أحدهما بالأصالة، والثاني بهمزة التعدية.والمقصود: أروني شخوصهم لنبصر هل عليها ما يناسب صفة الإِلهية، أي أن كل من يشاهد الأصنام بادىء مرة يتبيّن له أنها خليّة عن صفات الإِلهية إذ يرى حجارة لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه لأن انتفاء الإِلهية عن الأصنام بديهي ولا يحتاج إلى أكثر من رؤية حالها كقول البحْتري: والتعبير عن المرئِي بطريق الموصولية لتنبيه المخاطبين على خطئهم في جعلهم إياهم شركاء لله تعالى في الربوبية على نحو قول عبدة بن الطيب: وفي جعل الصلة {ألحقتم} إيماء إلى أن تلك الأصنام لم تكن موصوفة بالإِلهية وصفًا ذاتيًا حقًا ولكن المشركين ألحقوها بالله تعالى، فتلك خلعة خلعها عليهم أصحاب الأهواء.وتلك حالة تخالف صفة الإِلهية لأن الإِلهية صفة ذاتية قديمة، وهذا الإِلحاق اخترعه لهم عَمرو بن لُحَيّ ولم يكن عند العرب من قبل، وضمير {به} عائد إلى اسم الجلالة من جملة {قل ما يرزقكم من السماوات والأرض قل الله} [سبأ: 24].وانتصب {شركاء} على الحال من اسم الموصول.والمعنى: شركاء له.ولما أعرض عن الخوض في آثار هذه الإِراءة علم أنهم مفتضحون عند تلك الإِراءة فقُدرت حاصلة، وأُعقب طلب تحصيلها بإِثبات أثرها وهو الردع عن اعتقاد إلهيتها، وإبطالُها عنهم بإثباتها لله تعالى وحده فلذلك جمع بين حرفي الردع والإِبطال ثم الانتقال إلى تعيين الإِله الحق على طريقة قوله: {كلا بل لا تكرمون اليتيم} [الفجر: 17].وضمير {هو الله} ضمير الشأن.والجملة بعده تفسير لمعنى الشأن و {العزيز الحكيم} خبراننِ، أي بل الشأن المهمّ الله العزيز الحكيم لا آلهتكم؛ ففي الجملة قصر العزة والحكم على الله تعالى كناية عن قَصر الإِلهية عليه تعالى قصرَ إفراد.ويجوز أن يكون الضمير عائدًا إلى الإِله المفهوم من قوله: {الذين ألحقتم به شركاء} وهو مبتدأ والجملة بعده خبر.ويجوز أن يكون عائدًا إلى المستحضر في الذهن وهو الله.وتفسيره قوله: {الله} فاسم الجلالة عطف بيان.و {العزيز الحكيم} خبرَان عن الضمير.والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول يظهر في اختلاف مدلول الضمير المنفصل واختلاففِ موقع اسم الجلالة بعده، واختلاف موقع الجملة بعد ذلك.والعِزَّة: الاستغناء عن الغير.و {الحكيم} وصف من الحكمة وهي منتهى العلم، أو من الإِحكام وهو إتقان الصنع، شاع في الأمرين.وهذا إثبات لافتقار أصنامهم وانتفاء العلم عنها.وهذا مضمون قول إبراهيم عليه السلام: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا} [مريم: 42]. اهـ. .قال الشوكاني في الآيات السابقة: قوله: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مّن دُونِ الله}.هذا أمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يقول لكفار قريش، أو للكفار على الإطلاق هذا القول، ومفعولا زعمتم محذوفان، أي: زعمتموهم آلهة لدلالة السياق عليهما.قال مقاتل: يقول: ادعوهم ليكشفوا عنكم الضرّ الذي نزل بكم في سنين الجوع.ثم أجاب سبحانه عنهم، فقال: {لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ في السموات وَلاَ في الأرض} أي: ليس لهم قدرة على خير، ولا شرّ، ولا على جلب نفع، ولا دفع ضرر في أمر من الأمور، وذكر السماوات والأرض لقصد التعميم لكونهما ظرفًا للموجودات الخارجية {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أي: ليس للآلهة في السماوات والأرض مشاركة لا بالخلق، ولا بالملك، ولا بالتصرّف {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ} أي: وما لله سبحانه من تلك الآلهة من معين يعينه على شيء من أمر السموات والأرض ومن فيهما. {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ} أي: شفاعة من يشفع عنده من الملائكة، وغيرهم، وقوله: {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، أي: لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلاّ كائنة لمن أذن له أن يشفع من الملائكة، والنبيين، ونحوهم من أهل العلم، والعمل، ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلاّ لمن يستحق الشفاعة، لا للكافرين، ويجوز: أن يكون المعنى: لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من الأحوال إلاّ كائنة لمن أذن له، أي: لأجله، وفي شأنه من المستحقين للشفاعة لهم، لا من عداهم من غير المستحقين لها، واللام في: {لمن} يجوز أن تتعلق بنفس الشفاعة.قال أبو البقاء: كما تقول: شفعت له، ويجوز: أن تتعلق بتنفع، والأولى أنها متعلقة بالمحذوف كما ذكرنا.قيل: والمراد بقوله: {لاَّ تَنفَعُ الشفاعة} أنها لا توجد أصلًا إلاّ لمن أذن له، وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها تصريحًا بنفي ما هو غرضهم من وقوعها.قرأ الجمهور: {أذن} بفتح الهمزة، أي: أذن له الله سبحانه، لأن اسمه سبحانه مذكور قبل هذا، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي بضمها على البناء للمفعول، والآذن هو: الله سبحانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقوله: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28]، ثم أخبر سبحانه عن خوف هؤلاء الشفعاء، والمشفوع لهم، فقال: {حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} قرأ الجمهور: {فزّع} مبنيًا للمفعول، والفاعل هو: الله، والقائم مقام الفاعل هو: الجارّ والمجرور، وقرأ ابن عامر: {فزّع} مبنيًا للفاعل، وفاعله ضمير يرجع إلى الله سبحانه، وكلا القراءتين بتشديد الزاي، وفعل معناه: السلب، فالتفزيع إزالة الفزع.وقرأ الحسن مثل قراءة الجمهور إلاّ أنه خفّف الزاي.قال قطرب: معنى فزّع عن قلوبهم: أخرج ما فيها من الفزع، وهو: الخوف.وقال مجاهد: كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة.والمعنى: أن الشفاعة لا تكون من أحد من هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة، والأنبياء والأصنام، إلاّ أن الله سبحانه يأذن للملائكة والأنبياء، ونحوهم في الشفاعة لمن يستحقها، وهم على غاية النزع من الله كما قال تعالى: {وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28]، فإذا أذن لهم في الشفاعة فزعوا لما يقترن بتلك الحالة من الأمر الهائل، والخوف الشديد من أن يحدث شيء من أقدار الله، فإذا سرّي عليهم {قَالُواْ} للملائكة فوقهم، وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} أي: ماذا أمر به، فيقولون لهم: قال: القول {الحق} وهو: قبول شفاعتكم للمستحقين لها دون غيرهم {وَهُوَ العلى الكبير} فله أن يحكم في عباده بما يشاء، ويفعل ما يريد.وقيل: هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الربّ.
|